أنصاف المتعلمين |
الشيخ محمد بن عمر بازمول |
تواجه الحركة العلمية مشاكل عديدة، تكون سبباً لتعثر المجتمع، وإعطاؤه صورة ليست هي الصورة الحقيقة للمسلم. من صور المتعالمين: أنصاف المتعالمين، وذلك لأن الذي ينظر إلى هؤلاء يظنهم علماء أو طلاب علم، وحقيقة الحال أنهم لا يملكون من العلم ما يستطيعون به إعطاء صورة صحيحة عن الأمر الذي يتكلمون فيه.
فتجد أحدهم يتكلم في مسألة علمية شرعية، وغايته أنه أخذ بجانب من الأدلة دون الآخر، فجاء كلامه في المسألة بصورة ناقصة. تراه يختال في كلماته، ويحلق في عباراته، ما أشبهه بفقاقيع الصابون، تخطف البصر تتلألأ، وتتهادى، ولكن جوفاء، إذا ما أردت أن تمسكها زالت، وهكذا هؤلاء، إذا ما جئت تمسك بهم لنقاش أو بحث لم تجد لهم ثباتاً و لا استقراراً. يتجالدون غاية الجلادة، بثياب ليست لهم، وأدلة يسوقونها مساق الواثق، الذي بحد المثل الشعبي : (ماشي يقول: يا أرض انهدي ما عليك قدّي). العاطفة والاندفاع سمة هؤلاء. خذ مثلاَ، قضية الاختلاط وما أثير فيها من الطرفين، لو قلت الآن ما يلي: محل الذم للاختلاط هو في الحال الذي يحصل فيه مقروناً بما يخالف الشرع، كأن يصحب الاختلاط بخلوة بأجنبية، أو يقترن بتبرج من المرأة، أو بحصول أمور محرمة من التصاق الأجساد، أو لين الكلام، والخضوع بالقول ونحو ذلك مما يخشى معه وقوع الفتنة؛ فلا يدخل في ذلك بيع المرأة وشراؤها مع الرجال بدون شيء مما ذكر، فلا يقال عنه اختلاط. أمّا الهجوم على تحريم الاختلاط مطلقاً، بدون تفصيل فهذا من مسالك أنصاف المتعلمين، يتوجهون إلى الأمور قبل نضجها وتمامها، وجاء في المثل: "تزبب قبل أن يتحصرم" إذا ادعى حالة أو صفة قبل أن يتهيأ لها([1]). وفي مثل هؤلاء قال القائل (بعد إخراج قوله عن سياقه): وقل لمن يدّعي في العلم فلسفةً ... حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء ومن صفات هؤلاء الناس : انتقاصهم غير الصريح للعلماء. وظنهم في أنفسهم أنهم علماء. مع كونهم غالباً ليسوا ممن أخذ العلوم الشرعية عن أهلها. بل قد تكون تخصصات بعضهم الدراسية بعيدة كل البعد عن العلوم الشرعية. ومراوغتهم إذا جاء الدليل على خلافهم. وهجومهم للتصريح برأيهم. مع جرأتهم على الفتوى. وتسابقهم للكلام في النوازل العامة. على سفه ومع فسق أحياناً، فهم ممن يدخل في حديث الرسول e: "الرويبضة يتكلم في شأن العامة". عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ" قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ "([2]). ومن صفاتهم: حرصهم على الشعبية مع الناس. وبالتالي لا ينطقون بالحق، قال الثوري رحمه الله: "إذا رأيت العالم كثير الأصدقاء فاعلم أنه مخلط، لأنه إن نطق بالحق أبغضوه". هذا الصنف من الناس يتسبب في مشاكل كثيرة، وقد دعى رسول الله على المتجرئين على الفتوى. عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ t قَالَ: "خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ. فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ" ([3]). قال ابن تيمية رحمه الله : "وقد قيل : إنما يفسد الناس نصف متكلم ونصف فقيه ونصف نحوي ونصف طبيب؛ هذا يفسد الأديان . وهذا يفسد البلدان . وهذا يفسد اللسان . وهذا يفسد الأبدان. لا سيما إذا خاض هذا في مسألة لم يسبقه إليها عالم ولا معه فيها نقل عن أحد ولا هي من مسائل النزاع بين العلماء، فيختار أحد القولين بل هجم فيها على ما يخالف دين الإسلام"اهـ ([4]). وأمثال هؤلاء ينبغي أن يمنعوا من الكلام في العلم، وأن يصرفوا إلى أمور يحسنونها، فإن مفاسد هؤلاء على أنفسهم ومجتمعهم عظيمه؛ منها أنهم يكثرون من إيراد الشبه، فيضرون أنفسهم وغيرهم. ومنها تعطيل أنفسهم وغيرهم عن إعمار البلاد والعباد والسعي في النفع العام والخاص. ومنها أنهم يعطون تصورات وأحكماً غير صحيحة عن الدين وأهله. قال المناوي رحمه الله: "فعلم أن المدرس ينبغي أن يكلم كل طالب على قدر فهمه وعقله فيجيبه بما يحتمله حاله. ومن اشتغل بعمارة أو تجارة أو مهنة فحقه أن يقتصر به من العلم على قدر ما يحتاج إليه من هو في رتبته من العامة، وأن يملأ نفسه من الرغبة والرهبة الوارد بهما القرآن، ولا يولد له الشبه والشكوك. فإن اتفق اضطراب نفس بعضهم بشبهة تولدت له أو ولدها له ذو بدعة فتاقت إلى معرفة حقيقتها، اختبره ؛ فإن وجده ذا طبع موافق للعلم وفهم ثابت وتصور صائب خلى بينه وبين التعلم وسوعد عليه لما يجد من السبيل إليه. وإن وجده شريرا في طبعه أو ناقصا في فهمه، منعه أشد المنع. ففي اشتغاله مفسدتان : تعطله عما يعود نفعه إلى العباد والبلاد . وشغله بما يكثر من شبهة وليس فيه منفعة. وكان بعض المتقدمين إذا ترشح أحدهم لمعرفة حقائق العلوم والخروج من العامة إلى الخاصة، اختبر فإن لم يوجد خيرا أو غير منتهى للتعلم؛ منع . وإلا شورط على أن يقيد بقيد في دار الحكمة، ويمنع أن يخرج حتى يحصل العلم أو يأبى عليه الموت . ويقولون: إن من شرع في حقائق العلوم ثم لم يبرع فيها تولدت له الشبه وتكثر عليه فيصير ضالا مضلا فيعظم على الناس ضرره. وبهذا النظر قيل: نعوذ بالله من نصف فقيه أو متكلم"اهـ([5]). [وَنِصْفُ الْفَقِيهِ يَهْدِمُ الدِّينَ] ([6]). قال ابن عثيمين رحمه الله: "ينبغي لطالب العلم أن لا يستعجل فيه، كذلك التدريس والفتوى والحرص على الظهور قبل الضبط. وكنا نرى من بعض الأقران والزملاء من يحرص على أن يفتي بمجرد ما يقرأ مسألة ليبرز، فكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول له: لا تستعجل، واترك الفتوى في زمانك لمن هو أهل لها، فحريٌ بك إن شاء الله إن وضع الله لك قبولاً في الفتوى أن يرجع الناس إليك، وأن لا يزاحمك الغير كما لم تزاحم من هو أهلٌ للفتوى وأحق بها منك، انتظر وأتقن واضبط، ثم بعد ذلك تفرَّغ للتدريس والتعليم. وهذا مما أحببت أن أنبه إليه ،...، فبعض طلاب العلم -أصلحهم الله- بمجرد ما يقرأ كتاب الطهارة أو كتاب الصلاة أخرج المذكرة وعلَّق عليها، وأضاف ونقَّح، وزاد! فهذا كله من الآفات التي ينبغي لطالب العلم أن يتجنبها، وأن يحفظ حقوق أهل العلم، لا يختص هذا بعالم، إنما يشمل كل أهل العلم المتقدمين والمتأخرين. وينبغي للإنسان أن يكون حريصاً على إرادة وجه الله؛ لأن العلم فيه فتنة. والشيطان حريص. ومما ذكره العلماء: أن الدِّين يُفسِده نصف فقيه وعابد جاهل؛ فنصف العالم عنده علم، لكنه لم يكتمل علمه، فيُلفِّق، فهو ما بين الهلاك والنجاة، فتارةً يأخذ قولاً صحيحاً فيُعجب الناس من صحته وصوابه، ثم يوردهم المهالك، فإذا قال لهم أحد: إنه أخطأ في هذه المسألة، قالوا: لا، قد أصاب في غيرها فهو من أهل العلم. ولذلك ينبغي لطالب العلم أن لا يستعجل، ونصف العالم ونصف الفقيه يقع في أثناء الطلب، ولذلك كان من الحِكم المشهورة: (أول العلم طفرةٌ وهزة، وآخره خشية وانكسار). أول العلم فيه غرور، فإذا ثبَّت الله قدم صاحبه ومشى فيه حتى أتمَّه، وحرص على أنه لا يخرج ولا يكتب ولا يتصدَّر للناس إلا على أرضٍ ثابتة، وبيِّنة من ربه"اهـ([7]). ([1]) المعجم الوسيط مادة (تزبب) ([2]) أخرجه أحمد في المسند (الميمنية 2/291)، (الرسالة 13/291، حديث رقم 7912)، وحسنه محققو المسند بمجموع الطرق. ([3]) أخرجه أبوداود في كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم، حديث رقم (336) انفرد به عن أصحاب الستة.. قال الألباني في صحيح سنن أبي داود: "حسن دون قوله إنما كان يكفيه"اهـ . ([4]) الرد على البكري (2/731). ([5]) فيض القدير (3/377). ([6]) بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية/ الشاملة (4/272). ([7]) الشرح الممتع شرح زاد المستنقع (9/25). |