المنكرون للسنة |
الشيخ محمد بن عمر بازمول |
تتعرض السنة النبوية لهجمات عديدة اليوم، وهي في حقيقتها امتداد لطعون قديمة لأعداء السنن، فما تكاد تقف على طعن يأتي في كتاب أو مقالة لباحث معاصر، إلا وتجده في كتابات بعض الطاعنين من قديم في القرن الأول أو الثاني . وهؤلاء المعاصرون يجترون تلك الشبهات ويلوكونها بأقلامهم، ويروجونها بألسنتهم وأكتوباتهم، في الصحف والمجلات والكتب، والبرامج المسموعة والمرئية، ويتشدقون بها، ويملؤون أفواههم بتلك العبارات حتى يصدقون كذبهم وباطلهم.
ويمكن تقسيم الطاعنين في السنة إلى أصناف: الصنف الأول : الذين يطعنون في السنة من جهة نقلها. الصنف الثاني: الذين يطعنون في السنة من جهة ثبوتها. الصنف الثالث : الذين يطعنون في السنة من جهة معانيها (متونها). أمّا الصنف الأول وهم الطاعنون في السنة من جهة نقلها فهؤلاء طوائف: الطائفة الأولى : الذين يقسمون السنة إلى متواتر يفيد العلم، وآحاد لا يفيد العلم. الطائفة الثانية : الذين يقولون : أسانيد الأحاديث لم تكتب إلا في القرن الثالث، واستمرت السنة لقرنين دون كتابة، وهذا مدعاة أن يقع فيها الخلط والاضطراب والوضع. الطائفة الثالثة : الذين يقولون : لم تنقل السنة كنقل القرآن، ولم تحظ بالحفظ كالقرآن الكريم، فهذا دليل أنها ليست بتشريع . الطائفة الرابعة : الذين يقولون : عن القرآن فيه كل شيء، فلا نحتاج إلى السنة. الطائفة الخامسة : المهونون من شأن السنة، فهم لا يردونها، و لكن يهونون من شأنها فهي آحادية، لا تفيد إلا الظن، وهي مختلفة، محل تعارض، والمسألة محل خلاف، وهكذا حتى ينتهي الحال إلى ترك العمل بالسنة. ومنهم أصحاب التفسير الموضوعي الذين يقولون: لا يثبت عنصر للموضوع القرآني جاء في السنة لا بد أن يفرد التفسير الموضوعي فقط للعناصر الواردة في القرآن الكريم. الطائفة السادسة : الذين ينتقدون نقلة السنة، كابي هريرة t، وكعب الأحبار، وبعض الصحابة لروايتهم الإسرائيليات. وأخبث هؤلاء من يأتي بلبوس العلم ويدس السم في الدسم، فهذا عبد الله بن احمد بن محمود، أبو القاسم الكعبي البلخي، رأس المعتزلة ورئيسهم في زمانه وداعيتهم([1]). له مصنف عنوانه: "قبول الأخبار ومعرفة الرجال"([2])، ضمن كتابه أكاذيب في مثالب جملة من الصحابة ورواة الحديث، وكتابه قائم على أساس نصرة مذهب المعتزلة في رد خبر الواحد، وهيئة كتابه رواية وأخبار، وحقيقته كتاب طعن وإعثار على السنن، وكثير من الشبه التي يثيرها أصحاب المدرسة العقلية والطاعنون في السنة مصدرها هذا الكتاب وأمثاله. أمّا الصنف الثاني وهم الطاعنون في السنة من جهة ثبوتها، فهؤلاء طوائف: الطائفة الأولى : متعصبة المقلدة. الطائفة الثانية : أهل الأهواء. الطائفة الثالثة : المستشرقون. الطائفة الرابعة : جهال أهل السنة. ومنهم أصحاب منهج المتقدمين والمتأخرين وهؤلاء وصفهم الشيخ حماد الأنصاري بقوله عن منهج من مناهجهم في كتاب مصنف في ذلك: "هذا كتاب يهدم السنة من الداخل". ومن الناس لا ينتبه فيجعل السنة هي فعله دون تقريره وقوله، عند إطلاقهم لفظة: "خلاف السنة"، على من فعل فعلاً في أعمال الحج لم يفعله الرسول ? مع أن الرسول ? أقر من فعله، بقوله ?. ومنهم من يهتم بالمرفوع فقط دون الموقوف، مع أن فيه جملة كبيرة مما يدخل في المرفوع. أما الصنف الثالث : فهم الذين يطعنون في السنة من جهة نقد المتن، بالكلام على ما تستشكله عقولهم من معانيها، وهؤلاء طوائف: طائفة ترد أحاديث مفردة، كحديث الذبابة، وحديث بئر بضاعة، وحديث سحر النبي ?، وحديث الجساسة، حديث ضرب موسى لملك الموت، وحديث خلق التربة. وطائفة ترد أحاديث كتاب بقصد إسقاطه، وإلغاء حجيته، مثل صاحب كتاب: "جناية البخاري". وطائفة ترد أحاديث موضوع معين، كالذين يتكلمون عن أحاديث أحكام المرأة ويرون أن فيها ما يخالف حقوق المرأة، فيردونها بالطعن فيها، كحديث أمر المرأة بطاعة زوجها والإحسان إليه: "لو كنت آمراً أحداً بالسجود لغير الله..." الحديث، وحديث نهي علي t أن يتزوج بنت أبي جهل على فاطمة، وكالذين يردون أحاديث الصفات، لأنها اشتبهت عليهم، وصارت عندهم من المشكلات، وكالذين يردون أحاديث الطب، والذين يردون أحاديث الفتن، والذين يردون الأحاديث المشكلة المتعارضة المختلفة، المخالفة للعلم، بزعمهم. وطائفة تنتقد جمهور السنة، مثل صاحب كتاب : "أضواء على السنة المحمدية" لأبي رية. وهنا مهمات : الأولى : معنى الشبهة : قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة : (شبه) الشين والباء والهاء أصلٌ واحدٌ يدلُّ على تشابُه الشّيء وتشاكُلِهِ لوناً وَوَصْفاً. يقال شِبْه وشَبَه وشَبيه. والشّبَهُ من الجواهر: الذي يشبه الذّهَب. والمُشَبِّهَات من الأمور: المشكلات. واشتبه الأمرانِ، إذا أَشْكَلاَ. قال الراغب الأصفهاني (ت502هـ) رحمه الله: "والشبهة هو أن لا يتميز أحد الشيئين من الآخر لما بينهما من التشابه عينا كان أو معنى. قال: ]وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً[ (البقرة: من الآية25) أي : يشبه بعضه بعضا لونا لا طعما وحقيقة. وقيل: متماثلا في الكمال والجودة. ... ... وقوله: ]وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ[ (آل عمران: من الآية7) والمتشابه من القرآن ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره إما من حيث اللفظ أو من حيث المعنى. فقال الفقهاء : المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده"اهـ([3]) . والشبهات جمع شبهة، وسميت شبهة لأنها مبنية على ما يظنه أصحابها دليلاً علمياً فتشبه الحق، والحقيقة ليست كذلك، فالشبهة عبارة عن تشبيه الباطل بالحق، فإذا شبّه الباطل بالحق من جهة أن الباطل يظن أن له دليلاً وبرهاناً، فيعارض به الحق، صار هذا الباطل بما يظن معه من الدليل شبهة. والشبهة والمُشَبَّهة هي المسائل المعضلة أو المشكلة التي تلتبس على الناس كما جاء في بعض ألفاظ حديث النعمان بن بشير المشهور قال «الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشَبَّهات» أو «مُشْتَبِهَاتٌ» سميت مشبَّهة ومشتبهة لأنّ الأمر فيها يشتبه على الناظر فيه، وهكذا الشبهة تُلقى؛ يلقيها الشيطان أو يلقيها أعوانه أو تأتي في الذهن فيشتبه معها الحق ويشتبه الباطل معها بالحق، فيصبح الأمر غير واضح بها. الثانية : أهمية كشف الشبهات : إنّ إزالة وكشف الشبهات من أصول هذا الدين؛ لأن الله جل وعلا رد على المشركين في القرآن ودحض شبهاتِهم وأقوالَهم، قال جل وعلا: ?وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ? (الشورى:16). وكل من يجادل بالباطل ليست له حجة أو علم، لكن يحتج بأمور يظنها علماً ً، فحجته داحضة. والرد على أهل البدع والباطل والذب عن الإسلام، باب من أبواب الجهاد؛ وقد سمى الله عزوجل الرد على الكافرين في العهد المكي جهاداً، قال تعالى: ]فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً[ (الفرقان:52). ويقول ابن تيمية رحمه الله: "والمناظرة تارة تكون بين الحق والباطل. وتارة بين القولين الباطلين لتبين بطلانهما أو بطلان أحدهما أو كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر؛ فإن هذا ينتفع به كثيرا في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم، ممن يقول أحدهم القول الفاسد، وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب؛ فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحا. وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسدا، لتنقطع بذلك حجة الباطل، فإن هذا أمر مهم إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم؛ فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين، فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت، ولكن صالوا عليها صول المحاربين لله ولرسوله، فإذا دفع صيالهم وبين ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله"اهـ([4]). و قال ابن قيم الجوزية: "أما جهاد الشيطان فمرتبتان : إحداهما : جهاده على دفع ما يلقى إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان. الثانية : جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات فالجهاد الأول يكون بعده اليقين والثاني يكون بعده الصبر قال تعالى :] وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ[ (السجدة:24). فأخبر أن إمامة الدين إنما تنال بالصبر واليقين فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة واليقين يدفع الشكوك والشبهات"اهـ([5]). ومن جهاد أهل الباطل ودفع صيالهم على أهل الحق: أهل السنة، أن يرد على شبهاتهم، وما يظنونه أدلة لهم على باطلهم، حتى يحذرها المسلم. الثالثة : حكم كشف الشبهات : وإزالة الشبه التي شبه بها أعداء الملة وأعداء الدين فرض من فروض الكفايات في هذه الشريعة وواجب من الواجبات، لا بد أن يوجد من يقوم به وإلا أثم الجميع. ومن أهم الموارد لهذا الموضوع كتب الردود، ولذا نجد أنها من أوائل المصنفات، بل لا يكاد يوجد كتاب حديثي مبوب إلا وتضمن في أبوابه تراجم فيها الرد على المخالفين. الرابعة : ليس كل من رد حديثا هو من أصحاب الأغراض الباطلة، والأهواء الردية، فقد يحصل أن بعض الفضلاء بل وأهل العلم من يؤديه اجتهاده إلى إنكار بعض الأحاديث وردّها، وهذا ليس بمنهج له، و لا سبيل له يسلكه دائماً، لكن قام عنده في هذا الحديث بعينه ما جعله ينتقده ويرده، خالف فيه ما عليه أهل العلم من حيث لا يشعر. ومن القرائن الدالة على أنه ليس من أهل الأغراض الخبيثة، والأهواء الردية: 1 ) أن هذا ليس بمنهج له. 2 ) أن طريقته عموماً تعظيم السنة. 3 ) شهادة أهل العلم له بالفضل . الخامسة : بعض الأصناف قد تجتمع في فرقة واحدة، فالقرآنيون مثلاً احتجوا بشبه ترجع إلى النقل وشبه ترجع إلى الثبوت. والمستشرقون والعقلانيون سلكوا عامة المسالك فهم يجترون الباطل من الجميع ويلوكونه ويروحون ويجيئون فيه. السادسة : تتشابه الشبه أحياناً عند عدة طوائف، وهم يصيغونها من الجهة التي يريدونها مؤيدة لباطلهم. السابعة : من نظر في كتب الردود وجدها متشابهة في فحواها، وإنما تتعدد الصياغة، وأسلوب طرح الرد تبعاً لأسلوب صياغة الشبهة. الثامنة : الجهات التي تقع منها الشبهة، الشبهة إحداث في الشريعة [والإحداث في الشريعة إنما يقع من الجهات التالية: إمّا من جهة الجهل. وإمّا من جهة تحسين الظن بالعقل. وإمّا من جهة اتباع الهوى، في طلب الحق. وهذا الحصر بحسب الاستقراء، من الكتاب والسنة، إلا أن الجهات الثلاث، قد تنفرد وقد تجتمع، فإذا اجتمعت فتارة تجتمع منها اثنتان، وتارة تجتمع الثلاث. فأمّا من جهة الجهل؛ فتارة تتعلق بالأدوات التي بها تفهم المقاصد، وتارة تتعلق بالمقاصد. وأمّا من جهة تحسين الظن؛ فتارة يشرك في التشريع مع الشرع، وتارة يقدِّم عليها، وهذان النوعان يرجعان إلى نوع واحد. وأمّا من جهة اتباع الهوى؛ فمن شأنه أن يغلب الفهم حتى يقلب صاحبه الأدلة، ويلوي أعناق النصوص، أو يستند إلى غير دليل، وهذان النوعان يرجعان إلى نوع واحد. فالجميع أربعة أنواع، وهي: 1- الجهل بأدوات الفهم. 2- والجهل بالمقاصد. 3- وتحسين الظن بالعقل. 4- واتباع الهوى]([6]). ومنه تعلم أن الشبه على نوعين : الأول : ما كان منها من باب التباس الأمور بسبب الجهل، وتحسين الظن بالعقل، وهذا لا يسلم منه حتى بعض طلاب الحق، فقد تلتبس على المسلم أمور غامضة بالنسبة إليه، لا يعلمها كثير من الناس، كما قال الرسول r: "وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس"؛ فأفاد حصول أمور تلتبس على كثير من الناس. وأفاد أن بعض الناس وهم العلماء يعلمونها ويميزونها، فلا تشتبه عليهم. وأفاد تجويز حصول ذلك من جهة مقدار علم الناس وفهمهم. الثاني : ما كان من باب إتباع الهوى والبدعة والإمعان فيه، حيث ترى بعض الناس يريد الاعتراض على ما يقرره العلماء لأنه لا يعجبه و لا يرضيه، أو لا يوافق ما يعتقد أنه الحق، فبشغب بالاعتراض وإلقاء الشبه، إمعاناً في الباطل، غياً وعدوناً. وهذا مسلك أهل الضلال وأهل الباطل. والغرض من بيان جهات الاشتباه أن لا يظن أن كل من وقع في هذه الشبه هو من أهل الأهواء، بل قد يقع المسلم الذي لا يتبع هواه فيها جهلاً، والواجب عليه إذا بلغه البيان أن يستفيد ويرجع عن الباطل الذي كان عليه، فإن الحق هو طلبة المسلم، وليس بين أحد والحق عداء إن شاء الله تعالى! التاسعة : علامات أصحاب الأهواء: منها أن لا يذعن للحق والدليل إذا ما استبان. ومنها أن يغالط الحق وأهله. ومنها أن لا يجرى على سنن السلف الصالح في الاستدلال. ومنها أنه لا يلتزم بأدب الحوار. ومنها أن مقصوده إبطال كلام مخالفه لا طلب الحق وقبوله. ومنها الطعن في العلماء أهل الحديث والأثر. ومنها ترك الرجوع إليهم بسبب طعنه فيهم . العاشرة : في ضوابط بحث هذه الموضوعات. بحث هذه المسائل وعرضها له عند العلماء ضوابط لابد من مراعاتها، وذلك أن الشبه في الدين كالأمراض والأوبئة، لا يجوز نشرها بين الناس، حتى لا يصبح الناس مرضى القلوب! إذ الشبه من أمراض القلوب! وقد جاء عن بعض السلف: "أهرب من صاحب البدعة كهربك ممن به جرب"، ومعلوم أن الشبهة بريد البدعة، والبدعة بريد الكفر! ومن هذه الضوابط: 1 ) أن لا يورد من الشبه إلا ما هو بين الناس، فتتكلم وتعالج الواقع، وإلا كان في ذلك المزيد من إحداث البلبلة والفتن التي لا تنبغي بين المسلمين. وهذا يدل عليه منهج السلف عموماً، فإذا كانوا يكرهون الكلام في المسائل التي لم تحدث وتنزل فمن باب أولى الشبه والبدع. قال ابن رجب رحمه الله عند كلامه على حديث أبي هريرة t قال: سمعت رسول الله e يقول: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" رواه البخاري ومسلم، قال: "كان كثير من الصحابة والتابعين يكرهون السؤال عن الحوادث قبل وقوعها ولا يجيبون عن ذلك: قال عمرو بن مرة : خرج عمر على الناس فقال: أحرج عليكم أن تسألون عن ما لم يكن فإن لنا فيما كان شغلا. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر t لعن السائل عما لم يكن. وكان زيد بن ثابت إذا سئل عن شيء يقول: كان هذا؟ فإن قالوا: لا . قال: دعوه حتى يكون. وقال مسروق : سألت أبي بن كعب عن شيء فقال: أكان بعد فقلت: لا. فقال: أجمنا يعني أرحنا حتى يكون، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا. وقال الشعبي : سئل عمار عن مسألة فقال: هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا قال. فدعونا حتى يكون فإذا كان تجشمناه لكم . وعن الصلت بن راشد قال: سألت طاوسا عن شيء فانتهرني فقال: أكان هذا؟ قلت: نعم قال: آلله قلت: آلله أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبل t أنه قال: يأيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله فيذهبكم هاهنا وهاهنا فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد أو قال وفق "اهـ. 2 ) أن لا يتوسع في شرح الشبهة وبسطها في المجلس، فقد تعلق في قلوب بعض الحاضرين، ويأت الرد ضعيفاً لا يزيلها. ولذلك نهوا عن مجالستهم بله مخاطبتهم والسماع لكلامهم؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لاتجالس أهل الأهواء ، فإن مجالستهم ممرضة للقلوب"([7]). عن الحسن قال : "لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك"([8]). عن سفيان الثوري قال: "من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث : إما أن يكون فتنة لغيره. وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار. وإما أن يقول: والله ما أبالي ما تكلموه، وإني واثق بنفسي، فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه"([9]). عن أبي قلابة رحمه الله قال: "لا تجالسوا أهل الأهواء و لا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون"([10]). وقد كانوا يكرهون إيراد علل الحديث والتوسع فيها أمام العامة لما يخشى من تأثرهم بها، قال ابن رجب رحمه الله: "وقد ذكر أبو داود في رسالته إلى أهل مكة : "أنه ضرر على العامة أن يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب، فيما مضى من عيوب الحديث، لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا". وهذا كما قال أبو داود ، فإن العامة تقصر أفهامهم عن مثل ذلك، وربما ساء ظنهم بالحديث جملة إذا سمعوا ذلك . وقد تسلط كثير ممن يطعن في أهل الحديث عليهم بذكر شيء من هذه العلل. وكان مقصوده بذلك الطعن في الحديث جملة والتشكيك فيه. أو الطعن في غير حديث أهل الحجاز، كما فعله حسين الكرابيسي في كتابه الذي سماه بكتاب المدلسين، وقد ذكر كتابه هذا للإمام أحمد فذمه ذماً شديداً. وكذلك أنكره عليه أبو ثور وغيره من العلماء. قال المروزي : "مضيت إلى الكرابيسي وهو إذ ذاك مستور يذب عن السنة ويظهر نصرة أبي عبد الله، فقلت له: إن "كتاب المدلسين" يريدون أن يعرضوه على أبي عبد الله، فأظهر أنك قد ندمت حتى أخبر أبا عبد الله. فقال لي : "إن أبا عبد الله رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق، وقد رضيت أن يعرض كتابي عليه، وقال: قد سألني أبو ثور وابن عقيل وحبيش أن أضرب على هذا الكتاب، فأبيت عليهم، وقلت: بل أزيد فيه، ولجّ في ذلك وأبى أن يرجع عنه . فجئ بالكتاب إلى أبي عبد الله وهو لا يدري من وضع الكتاب، وكان في الكتاب الطعن على الأعمش والنصرة للحسن بن صالح . وكان في الكتاب : "إن قلت: إن الحسن بن صالح كان يرى رأي الخوارج فهذا ابن الزبير قد خرج"([11]). فلما قرئ على أبي عبد الله قال : "هذا قد جمع للمخالفين ما لم يحسنوا أن يحتجوا به ، حذروا عن هذا" ونهى عنه . وقد تسلط بهذا الكتاب طوائف من أهل البدع من المعتزلة وغيرهم في الطعن على أهل الحديث،كابن عباد الصاحب ونحوه، وكذلك بعض أهل الحديث ينقل منه دسائس ـ إما أنه يخفى عليه أمرها، أو لا يخفى عليه - في الطعن في الأعمش، ونحوه، كيعقوب الفسوي، وغيره . وأما أهل العلم والمعرفة والسنة والجماعة فإنما يذكرون علل الحديث نصيحة للدين وحفظاً لسنة النبي e، وصيانة لها، وتمييزاً مما يدخل على رواتها من الغلط والسهو والوهم، ولا يوجب ذلك عندهم طعناً في غير الأحاديث المعللة، بل تقول بذلك الأحاديث السليمة عندهم لبراءتها من العلل وسلامتها من الآفات ، فهؤلاء هم العارفون بسنة رسول الله عليه وسلم حقاً ، وهم النقاد الجهابذة الذين ينتقدون الحديث انتقاد الصيرفي في الحاذق للنقد البهرج من الخالص ، وانتقاد الجوهري الحاذق للجوهر مما دلس به"اهـ([12]). وقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي رحمهما الله تصنيفه في الرد على المعتزلة، فقال الحارث: الرد على البدعة فرض فقال أحمد: نعم، ولكن حكيت شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها، فيم تأمن أن يطالع الشبهة من يعلق ذلك بفهمه، ولا يلتفت إلى الجواب أو ينظر في الجواب ولا يفهم كنهه؟([13]). 3 ) أن لا تذكر الشبهة إلا ومعها الرد، بلا إحالة، وقد انتقد بعض العلماء تفسير الرازي بأنه يأتي بالشبهة نقداً وبالرد نسيئة. 4 ) من منهجهم إذا انتشرت البدعة، وكان لأصحابها شبهاً تعلقوا فيها بآيات وأحاديث، أن يهتموا بالرد والبيان، دون الدخول في القضايا العقلية البحتة، وهذا منهم لأن من وظيفة العلماء بيان القرآن والسنة وإزالة شبه الاستدلال الباطل عنهما، وتعظيماً وتوقيراً لما أوجب الله تعظيمه وتوقيره، وتزهيداً للناس عن الخوض في الدين بالطرق العقلية والمناهج الكلامية، فإن احتاجوا لذلك خاضوه ولكن بقدر. 5 ) من منهج السلف الصالح الاهتمام بالكتب التي تبين المنهج العام، ومن خلال بيانهم للمنهج العام يشيرون إلى رد الشبه، في تراجم الأبواب، كما تراه بوضوح عند البخاري في صحيحه، أو بإفراد موضوع بجمع ما فيه من الروايات والأحاديث، وهذا شأن الكثير من الأجزاء المفردة لأهل الحديث، فلما حدثت الشبه في القدر أفرد هذا الموضوع بالتصنيف، ولما حدثت الشبه في النبيذ أفرد موضوع الأشربة بالتصنيف، ولما حدثت الشبه في مسألة خلق أفعال العباد أفردت بالتصنيف، ... وهكذا. وهذا يبين أن لرد الشبه في تصانيف السلف ثلاثة طرق: الأول : من خلال إفرادها بالتصنيف المباشر عنها. كالرد على الجهمية والزنادقة لأحمد بن حنبل، وكالرد على بشر المريسي، وكالرد على المعتزلة في مسألة خلق أفعال العباد للبخاري. الثاني : من خلال مصنفاتهم العامة في بيان المنهج العام، كالمصنفات والموطآت، والجوامع والسنن، فهي تشتمل على تراجم وأبواب في رد الكثير من الشبه. الثالث : من خلال جمع المرويات في الموضوع وسردها. وقد يجتمع في بعض المصنفات الرد بهذه الطرق جميعها أو ببعضها كما تراه في كتاب الشريعة للآجري، وكتاب اللالكائي([14]) . ([1]) ترجم له في الوافي بالوفيات/الشاملة/ (5 / 352)، وقال: " قال جعفر المستغفري: لا أستجيز الرواية عن أمثاله. توفي سنة تسع عشرة وثلاثمائة. وناهيك من فضله وتقدمه إجماع العالم على حسن تأليفه للكتب الكلامية والتصانيف الحكمية التي بذت أكثر كتب الحكماء، وصارت ملاذاً للبصر وعمدةً للأدباء، ونزهة في مجالس الكبراء. وكانت في العراق أشهر منها في خراسان، وأئمة الدينا مولعون بها،مغرمون بفوائدها حتى أنه لما دخل أبو الحسن علي بن محمد الخشابي البلخي تلميذه بغداد حاجاً جعلها جعل أهلها يقولون بعضهم لبعض: قد جاء غلام الكعبي فتعالوا ننظر إليه ! فاحتوشه أهل العصر وعصابة الكلام، وجعلوا يتبركون بالنظر إليه ويتعجبون منه، وينظرون إليه، ويسألونه على الكعبي وخصائله وشمائله، وكان مدة مقامة بها كأنه فيها من كبار الأولياء. وكان الكعبي لا يخفي مذهبه وكان صلحاء أهل بلخ ينالون منه، ويقدحون فيه، ويرمونه بالزندقة ولما صنف أبو زيد كتاب السياسة ليانس الخادم - وهو إذ ذاك وإلي بلخ - قال الكعبي: قد جمع الله السياسة كلها في آية من القرآن حيث يقول: ?يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون* وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين?. ومن تصانيفه تفسير القرآن على رسم لم يسبق إليه - اثنا عشر مجلد - ؛ مفاخر خراسان ومحاسن آل طاهر، عيون المسائل - تسع مجلدات - ، أوائل الأدلة، المقامات، جواب المسترشد في الإمامة، الأسماء والأحكام، بعض النقض على المجبرة، الجوابات، أدب الجدل، نقض كتاب أبي علي الجبائي في الإرادة، السنة والجماعة، الفتاوى الواردة من جرجان والعراق، الانتقاد للعلم الإلهي على محمد بن زكرياء، تحفة الوزراء. وكان الكعبي تلميذ أبي الحسين الخياط، وقد وافقه في اعتقاداته جميعها، وانفرد عنه بمسائل، منها قوله:إن إرادة الرب تعالى ليست قائمةً بذاته، ولا هو مريد إرادته، ولا أرداته حادثة في محل، ولا لا في محل، بل ذا أطلق عليه أنه مريدٌ لأفعاله فالمراد أنه خالق لها على وفق علمه. وإذا قيل إنه مريدٌ لأفعال عباده فالمراد أنه راضٍ بها، آمرٌ بها. قلت: كذا قاله ابن أبي الدم في كتابه الفرق الإسلامية - أعني ذكر هذه العقيدة"اهـ ([2]) مطبوع، بتحقيق أبي عمرو الحسيني بن عمر بن عبدالرحيم، دار الكتب العلمية،الطبعة الأولى 1421هـ. ([3]) المفردات ص254. ([4]) منهاج السنة النبوية (2/281). ([5]) زاد المعاد (3م10). ([6]) الاعتصام (2/293). ([7]) الشريعة للآجري/الشاملة/ ص60. ([8]) كتاب فيه ما جاء في البدع لابن وضاح / تحقيق بدر البدر/ ص104، وبنحوه ص110. ([9]) كتاب فيه ما جاء في البدع لابن وضاح / تحقيق بدر البدر/ ص104. ([10]) أخرجه الدارمي في باب اجتناب أهل الأهواء وأهل البدع والخصومة تحت رقم (397)، وفي كتاب السنة لعبدالله بن أحمد (1/137) تحت رقم (99)، والنهي عن البدع لابن وضاح ص99، والشريعة (1/435)، والإبانة لابن بطة (2/435) وشرح السنة لللالكائي (1/134). ([11]) ابن الزبير t لم يخرج على عبدالملك بن مروان؛ وإنما استقل بولايته في زمن لم يوجد فيه من يلي الأمر، ويحدثنا عن هذا ابن تيمية رحمه الله (في منهاج السنة النبوية (4/522-524)) فيقول: "إن ابن الزبير لما جرى بينه وبين يزيد ما جرى من الفتنة واتبعه من اتبعه من أهل مكة والحجاز وغيرهما، وكان إظهاره طلب الأمر لنفسه بعد موت يزيد، فإنه حينئذ تسمى بأمير المؤمنين وبايعه عامة أهل الأمصار إلا أهل الشام؛ ولهذا إنما تعد ولايته من بعد موت يزيد، وأما في حياة يزيد فإنه امتنع عن مبايعته أوَّلا، ثم بذل المبايعة له فلم يرض يزيد إلا بأن يأتيه أسيرا فجرت بينهما فتنة وأرسل إليه يزيد من حاصره بمكة، فمات يزيد وهو محصور، فلما مات يزيد، بايع ابن الزبير طائفة من أهل الشام والعراق وغيرهم. وتولى بعد يزيد ابنه معاوية بن يزيد ولم تطل أيامه، بل أقام أربعين يوما أو نحوها وكان فيه صلاح وزهد ولم يستخلف أحدا؛ فتأمر بعده مروان بن الحكم على الشام ولم تطل أيامه. ثم تأمر بعده ابنه عبد الملك وسار إلى مصعب بن الزبير نائب أخيه على العراق فقتله، حتى ملك العراق وأرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره وقاتله حتى قتل ابن الزبير، واستوثق الأمر لعبدالملك ثم لأولاده من بعده، وفتح في أيامه بخاري وغيرها من بلاد ما وراء النهر فتحها قتيبة بن مسلم نائب الحجاج بن يوسف الذي كان نائب عبد الملك بن مروان على العراق مع ما كان فيه من الظلم، وقاتل المسلمون ملك الترك خاقان وهزموه وأسروا أولاده، وفتحوا أيضا بلاد السند، وفتحوا أيضا بلاد الأندلس، وغزوا القسطنطينية وحاصروها مدة، وكانت لهم الغزوات الشاتية والصائفة"اهـ. ([12]) شرح علل الترمذي /العتر/ (2/806-808). ([13]) المنقذ من الضلال / الشاملة/ ص8. ([14]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم، لأبي القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللاكائي (ت418هـ)، تحقيق الدكتور أحمد سعد حمدان، نشر دار طيبة، الرياض.الطبعة الثانية 1411هـ. |